الباحث.. الكاتب.. رجل الاعمال .. التاجر .. الوجيه.. كلها القاب ودلالات يمكن ان تسبق اسم راشد الزياني . غير ان الرجل في الحقيقة لا يحتاج لاي من هذه الالقاب والتعريفات , اذ يكفي ان تقول راشد الزياني , ليدرك القارىء او السامع انك تقصد الرجل الذي صنع كل هذه الالقاب والمراكز الوظيفية والمعنوية التي احتلها بملكاته المتعددة , او استسلمت هي اليه طائعة مختارة ..
ما كان لراشد الزياني ان يختار توقيتا لاصدار كتابه الثالث " البحرين بين عهدين " أفضل من الوقت الراهن . ففي هذا الوقت الذي يتماهى فيه تاريخ البحرين , مع تداعيات السياسة , وتعمل فيه بعض مفاعيل هذه السياسة على فرض تغييب قسري على بعض مراحل هذا التاريخ او حقائقه .. في هذا الوقت بالذات تبدو مبادرة الزياني " ضربة معلم " . اذ انها نجحت تماما في تنشيط الغدد الصنوبرية , في الدماغ البحريني , واحياء جزء من الذاكرة التاريخية للمملكة , استباحته السياسة . المثير هنا ان راشد الزياني لم يكتب تاريخا , ولا كتب سياسة ايضا . انه فقط غاص في التاريخ , فخرج منه محملا باللؤلؤ . وهذه هي مهنة راشد الزياني التي ورثها عن آبائه واجداده . ولكن لآلىء راشد الزياني التاريخية , اثمن بكثير من كل اللآلىء التي توضع على جيد النساء , فالرجل غاص وأخرج من اللؤلؤ النادر ما يصلح لتزيين جيد مملكة . وكتاب " البحرين بين عهدين " , لا يعتبر في الواقع بحثا تاريخيا بقدر ما هو تنقيب في التاريخ . ويمكن وصفه بأنه أوراق بحرينية , ما تزال تحمل على مر الدهور والاعوام نكهة البحرين القديمة نسبيا , بكل ما في تلك النكهة من لذعة الحضور الدافق , ووجدانية الغياب في المجهول .
والكتاب, يشكل قراءة سلسة, بسيطة, في تاريخ كان بسيطا فعقدته السياسة. فالزياني , في " البحرين بين عهدين " لا يحاكم التاريخ , ولا هو معني بتصنيفه ايدولوجيا , انه يفعل تماما كالغواص الحاذق : يغوص الى تلك الاعماق المظلمة , فيخرج منها ما تيسر , وعلى السطح يقوم بفرز ما امتلأت به جعبته , فلا يستبعد شيئا . فثمة حاجة لكل شيء , وثمة وظيفة لكل محارة . وبعضها قد يبدو في عيون الجاهلين بلا فائدة , ولكن عيون خبير اللؤلؤ العريق والحاذق , والغواص المتمكن , تستطيع ان ترى ما لا يراه الغير . يتضح هذا بشدة من خلال الوثائق " العادية " جدا التي استخرجها الزياني من البحر المظلم للتاريخ , فأعاد قراءتها بما ينبغي لها من حنكة ودراية وفهم عميق , وتسامح قد يظهر للبعض مرنا , ولكنه عند العارفين والخبراء اكثر صرامة وتشديدا من شروط المؤرخ . ونشاطات راشد الزياني في التأريخ للبحرين القديمة نسبيا ـ وبحرها , ولؤلؤها , وناسها , وعاداتها , وتقاليدها , وتلك البهجة العفية فيها على رغم الكثير من ضنك الحال , وتداعي العوامل السياسية والاقتصادية وأطماع القريب والبعيد على حد سواء ـ في النصف الاول من القرن الماضي, هي التي - من بين نشاطات وكتابات اخرى - جعلت كثيرا من مراقبي هذا التاريخ والباحثين فيه , يلتفتون الى ما يتجاهله المؤرخون في العادة . بل انها جعلت الكثير من البحرينيين يعيدون النظر في انتمائهم الشخصي الى البلد التي عاشوا فيها وشكلت وجدانهم, أطفالاً وشباباً ورجالاً ونساءا.. فراشد الزياني , استطاع في ثلاثيته " ذكريات وتاريخ " , " الغوص والطواشة " , " البحرين بين عهدين " , ان يكسب هذا الانتماء وجدانا أكثر شفافية , وان يظهر من العلائق التي تبدو بسيطة , ولكنها في الواقع عميقة جدا , ما يكفي لاكتشاف الذات الجمعي للوطن وانسانه . وبهذا المعنى, فإن الزياني هو احد مؤسسي حزب " البحرين اولا .. " , فالبحرينيون يولدون ويربون ويراهقون ويعرفون الحب الاول ويتعلمون ويعاركون الحياة والكتب والنساء والاصدقاء والاحزاب والمظاهرات والنجاح والفشل في البحرين .. بما هي كيان واحد رحب يطلع من جذر البحر , وتسري دماؤه مع نسغ نخيل الارض , ثم يدعون بأنهم من المحرق , او المنامة , او ستره , او مدينة عيسى.. وهذا ما تحرر منه راشد الزياني , وحرر معه الكثيرين , عبر ثلاثيته الاكثر عمقا في حب البحرين .
والزياني الذي يبحر في كل " أشياء " القرن الماضي , واوراقه , ورسائله , وذكرياته بذكاء الباحث الانثروبولوجي الوطني, ولغة الاديب الشاعر , واصرار الغواص الذي لا يكل ولا يتعب , وحنكة التاجر الذي لا يرى من الحكمة القاء اي شيء , بل يستفيد من كل صغيرة وكبيرة , صنع كتاباً بهيجا على رغم ما فيه من عوامل القهر احيانا . وهو مزيج من المادة البحثية الدقيقة بتفوق , والنص المتخيل بشاعرية ورومانسية .. يأخذ خيوطاً من الوقائع والانطباعات المسجلة او المروية , و " يشك " فيها ما استخرجه من لآلىء ودانات الوثائق , ليصنع منها عقودا , ليست للزينة بالضرورة, ولكنها, بالتأكيد, تزين جيد الامس البحريني البهي , وتعيد اظهاره بجلاء , وطهارة , ونقاء .. وهي تشكل ايضا ذخيرة للحاضر , ورصيدا للمستقبل .
وفي كل دانة من دانات الزياني , ستجد التاريخ مكتوبا بصفاء , والحياة الاجتماعية مرسومة بشاعرية , وبلغة تجمع السيناريو الى الحوار , فتعطي للصورة المفردة او الجامعة مشهدية مكثفة بالحياة , تجعلها تبدو وكأنما تحدث الآن . وهو حين يتذكر , فيكاد يبدو وكأنما يمد نظره للبعيد , ثم تعود اليه تلك النظرة الطويلة المترامية , لترسم له , ولنا بانوراما كاملة , تحتشد فيها الصور والانطباعات والرؤى والمشاعر , الى الدرجة التي يشعر فيها قارىء الكتاب , وكأنه في مناخ افتراضي صنعته يد تقنية مبدعة لواقع حقيقي بكل تفاصيله الصغيرة والكبيرة . غير ان " العم راشد" , لا يعترف بأن ثمة شيئا صغيرا في التأريخ .. فكل حرف في وثيقة , هو لؤلؤة ثمينة , وكل نص مكتوب او مسجل او منقول , هو ثروة , وفي كل ملاحظة الف صورة , وفي كل صورة الف حقيقة , بعضها غيبته السياسة , وبعضها غيبه التاريخ المنحول , وبعضها طواه النسيان الظالم .. ولكن الزياني استبعد كل هذه العوامل ـ الطبيعية وغير الطبيعية ـ وجلى تلك الصور , بكل حقائقها , وكل ما فيها من نكهة وطعم ورائحة ...
إن كثيرا من ابناء هذا الجيل , وربما الجيل السابق , لم ينجحوا بعد في اكتشاف علاقتهم الروحية الخاصة , والشخصية , وتلك العلاقة الروحية الجمعية بالبحرين , غير ان راشد الزياني , يفعل ما فعله يوسف شاهين بمدينته الاسكندرية , وما فعله تشارلز ديكنز بمدينته لندن , وما فعله عبد الرحمن منيف بمدينته عمان , فهو يقدم لابناء هذا الجيل والجيل السابق واللاحق ايضا , فرصة تمنحهم النظر الى التاريخ المعاصر للبحرين " المدينة والمملكة " بوصفها فضاء كوزموبوليتي ضاعت منه بعض تفاصيله , ولكن بقيت فيه طلاوة المكان والزمان , وبهجة الحقيقة النظيفة , وبقيت فيه بيوتاته وعائلاته وذاكرته الوجدانية , والتفاصيل الاكثر نقاءا من تاريخه المرتبط بالحاضر على نحو وثيق وشفيف .. بل استطيع القول ان الزياني في كتابه " البحرين بين عهدين " يكشف عن مخزن وفير للابداع الادبي والدراما السينمائية , ينبغي ان يلتفت اليه مخرج عبقري , كأساس لدراما تاريخية ملحمية , للبحرين المعاصرة ..
ما كان لراشد الزياني ان يختار توقيتا لاصدار كتابه الثالث " البحرين بين عهدين " أفضل من الوقت الراهن . ففي هذا الوقت الذي يتماهى فيه تاريخ البحرين , مع تداعيات السياسة , وتعمل فيه بعض مفاعيل هذه السياسة على فرض تغييب قسري على بعض مراحل هذا التاريخ او حقائقه .. في هذا الوقت بالذات تبدو مبادرة الزياني " ضربة معلم " . اذ انها نجحت تماما في تنشيط الغدد الصنوبرية , في الدماغ البحريني , واحياء جزء من الذاكرة التاريخية للمملكة , استباحته السياسة . المثير هنا ان راشد الزياني لم يكتب تاريخا , ولا كتب سياسة ايضا . انه فقط غاص في التاريخ , فخرج منه محملا باللؤلؤ . وهذه هي مهنة راشد الزياني التي ورثها عن آبائه واجداده . ولكن لآلىء راشد الزياني التاريخية , اثمن بكثير من كل اللآلىء التي توضع على جيد النساء , فالرجل غاص وأخرج من اللؤلؤ النادر ما يصلح لتزيين جيد مملكة . وكتاب " البحرين بين عهدين " , لا يعتبر في الواقع بحثا تاريخيا بقدر ما هو تنقيب في التاريخ . ويمكن وصفه بأنه أوراق بحرينية , ما تزال تحمل على مر الدهور والاعوام نكهة البحرين القديمة نسبيا , بكل ما في تلك النكهة من لذعة الحضور الدافق , ووجدانية الغياب في المجهول .
والكتاب, يشكل قراءة سلسة, بسيطة, في تاريخ كان بسيطا فعقدته السياسة. فالزياني , في " البحرين بين عهدين " لا يحاكم التاريخ , ولا هو معني بتصنيفه ايدولوجيا , انه يفعل تماما كالغواص الحاذق : يغوص الى تلك الاعماق المظلمة , فيخرج منها ما تيسر , وعلى السطح يقوم بفرز ما امتلأت به جعبته , فلا يستبعد شيئا . فثمة حاجة لكل شيء , وثمة وظيفة لكل محارة . وبعضها قد يبدو في عيون الجاهلين بلا فائدة , ولكن عيون خبير اللؤلؤ العريق والحاذق , والغواص المتمكن , تستطيع ان ترى ما لا يراه الغير . يتضح هذا بشدة من خلال الوثائق " العادية " جدا التي استخرجها الزياني من البحر المظلم للتاريخ , فأعاد قراءتها بما ينبغي لها من حنكة ودراية وفهم عميق , وتسامح قد يظهر للبعض مرنا , ولكنه عند العارفين والخبراء اكثر صرامة وتشديدا من شروط المؤرخ . ونشاطات راشد الزياني في التأريخ للبحرين القديمة نسبيا ـ وبحرها , ولؤلؤها , وناسها , وعاداتها , وتقاليدها , وتلك البهجة العفية فيها على رغم الكثير من ضنك الحال , وتداعي العوامل السياسية والاقتصادية وأطماع القريب والبعيد على حد سواء ـ في النصف الاول من القرن الماضي, هي التي - من بين نشاطات وكتابات اخرى - جعلت كثيرا من مراقبي هذا التاريخ والباحثين فيه , يلتفتون الى ما يتجاهله المؤرخون في العادة . بل انها جعلت الكثير من البحرينيين يعيدون النظر في انتمائهم الشخصي الى البلد التي عاشوا فيها وشكلت وجدانهم, أطفالاً وشباباً ورجالاً ونساءا.. فراشد الزياني , استطاع في ثلاثيته " ذكريات وتاريخ " , " الغوص والطواشة " , " البحرين بين عهدين " , ان يكسب هذا الانتماء وجدانا أكثر شفافية , وان يظهر من العلائق التي تبدو بسيطة , ولكنها في الواقع عميقة جدا , ما يكفي لاكتشاف الذات الجمعي للوطن وانسانه . وبهذا المعنى, فإن الزياني هو احد مؤسسي حزب " البحرين اولا .. " , فالبحرينيون يولدون ويربون ويراهقون ويعرفون الحب الاول ويتعلمون ويعاركون الحياة والكتب والنساء والاصدقاء والاحزاب والمظاهرات والنجاح والفشل في البحرين .. بما هي كيان واحد رحب يطلع من جذر البحر , وتسري دماؤه مع نسغ نخيل الارض , ثم يدعون بأنهم من المحرق , او المنامة , او ستره , او مدينة عيسى.. وهذا ما تحرر منه راشد الزياني , وحرر معه الكثيرين , عبر ثلاثيته الاكثر عمقا في حب البحرين .
والزياني الذي يبحر في كل " أشياء " القرن الماضي , واوراقه , ورسائله , وذكرياته بذكاء الباحث الانثروبولوجي الوطني, ولغة الاديب الشاعر , واصرار الغواص الذي لا يكل ولا يتعب , وحنكة التاجر الذي لا يرى من الحكمة القاء اي شيء , بل يستفيد من كل صغيرة وكبيرة , صنع كتاباً بهيجا على رغم ما فيه من عوامل القهر احيانا . وهو مزيج من المادة البحثية الدقيقة بتفوق , والنص المتخيل بشاعرية ورومانسية .. يأخذ خيوطاً من الوقائع والانطباعات المسجلة او المروية , و " يشك " فيها ما استخرجه من لآلىء ودانات الوثائق , ليصنع منها عقودا , ليست للزينة بالضرورة, ولكنها, بالتأكيد, تزين جيد الامس البحريني البهي , وتعيد اظهاره بجلاء , وطهارة , ونقاء .. وهي تشكل ايضا ذخيرة للحاضر , ورصيدا للمستقبل .
وفي كل دانة من دانات الزياني , ستجد التاريخ مكتوبا بصفاء , والحياة الاجتماعية مرسومة بشاعرية , وبلغة تجمع السيناريو الى الحوار , فتعطي للصورة المفردة او الجامعة مشهدية مكثفة بالحياة , تجعلها تبدو وكأنما تحدث الآن . وهو حين يتذكر , فيكاد يبدو وكأنما يمد نظره للبعيد , ثم تعود اليه تلك النظرة الطويلة المترامية , لترسم له , ولنا بانوراما كاملة , تحتشد فيها الصور والانطباعات والرؤى والمشاعر , الى الدرجة التي يشعر فيها قارىء الكتاب , وكأنه في مناخ افتراضي صنعته يد تقنية مبدعة لواقع حقيقي بكل تفاصيله الصغيرة والكبيرة . غير ان " العم راشد" , لا يعترف بأن ثمة شيئا صغيرا في التأريخ .. فكل حرف في وثيقة , هو لؤلؤة ثمينة , وكل نص مكتوب او مسجل او منقول , هو ثروة , وفي كل ملاحظة الف صورة , وفي كل صورة الف حقيقة , بعضها غيبته السياسة , وبعضها غيبه التاريخ المنحول , وبعضها طواه النسيان الظالم .. ولكن الزياني استبعد كل هذه العوامل ـ الطبيعية وغير الطبيعية ـ وجلى تلك الصور , بكل حقائقها , وكل ما فيها من نكهة وطعم ورائحة ...
إن كثيرا من ابناء هذا الجيل , وربما الجيل السابق , لم ينجحوا بعد في اكتشاف علاقتهم الروحية الخاصة , والشخصية , وتلك العلاقة الروحية الجمعية بالبحرين , غير ان راشد الزياني , يفعل ما فعله يوسف شاهين بمدينته الاسكندرية , وما فعله تشارلز ديكنز بمدينته لندن , وما فعله عبد الرحمن منيف بمدينته عمان , فهو يقدم لابناء هذا الجيل والجيل السابق واللاحق ايضا , فرصة تمنحهم النظر الى التاريخ المعاصر للبحرين " المدينة والمملكة " بوصفها فضاء كوزموبوليتي ضاعت منه بعض تفاصيله , ولكن بقيت فيه طلاوة المكان والزمان , وبهجة الحقيقة النظيفة , وبقيت فيه بيوتاته وعائلاته وذاكرته الوجدانية , والتفاصيل الاكثر نقاءا من تاريخه المرتبط بالحاضر على نحو وثيق وشفيف .. بل استطيع القول ان الزياني في كتابه " البحرين بين عهدين " يكشف عن مخزن وفير للابداع الادبي والدراما السينمائية , ينبغي ان يلتفت اليه مخرج عبقري , كأساس لدراما تاريخية ملحمية , للبحرين المعاصرة ..