الجمعة، 11 يوليو 2008

الشيخ محمد بن مبارك آل خليفة.. الرجل والتاريخ


.. كان هناك. وكان الوقت صباحاً حين دلفنا إلى قاعة فسيحة في فندق فخم من فنادق البحرين الكبرى قبل نحو من الزمن للالتحاق بصفوف الدبلوماسيين والصحفيين الذين كانوا يعتبرون كل مؤتمر أو حديث صحفي لمعالي الشيخ محمد بن مبارك درسا جديدا في فنون الخطاب الدبلوماسي الذي يجمع الشعر بالاكاديميا والفلسفة فيصير كيانا فريدا من أدب دبلوماسي وسياسي رفيع.. كان هناك: قامة باسقة، وأنفة لا تكون إلا لرجل صلب صنعته المحنة والمهنة وعراقة المحتد وموسوعية الفكر وعمق التجربة..

جميعنا، نحن الذين كتبنا تصريحات وأحاديث الشيخ محمد بن مبارك بدا وكأننا نكتب لأنفسنا وذاكراتنا العطشى للفرادة، أكثر مما نكتب للصحف والقراء ، ولعل كثيرا من الدبلوماسيين المجتمعين فعلوا الشيء نفسه أيضا، فالرجل : مدرسة دبلوماسية تمشي على الأرض ، وتاريخ إن حكى ، ودولة إن صرح ، قد يضحك أحيانا وكثيرا ما يبتسم ولكنها ابتسامة العارف أكثر منها ابتسامة المجامل. قال أحد الصحفيين المخضرمين بعد أن انتهى المؤتمر الصحفي : ها نحن كتبنا تصريحات الشيخ بن مبارك، ولا بأس في ذلك، ولكننا بحاجة للكتابة عن محمد بن مبارك: التأسيس، الانجاز، التراكم المهني، المحتوى الفكري والدور التاريخي .

مهنيا وعلى مستوى التكنوقراط البحريني ، لم يعرف عن الشيخ محمد بن مبارك أنه كان مجاملاً فيما يتعلق بمهنة الدبلوماسية وأخلاقياتها وضوابطها، كان صارما وحاداً مع اولئك الذين لا يدركون جلال المهنة أو خطورة الدور، واؤلئك الذين يفتقدون إلى أدواتها. ويقال في البحرين أن الرجل لم تكن له في يوم من الأيام جماعة أو (بطانة) تلتف حوله أو تشكل ظلا تابعا له. ببساطة كان يصنع المريدين يوميا .. ولكن العمل بمعيته كان أكثر تعقيدا. وهو كما قال لي احد كبار المعاونين نوع من السير على حد السيف ، ونوع من الغرف من البحر الهادئ .. تظن لطول تجربته وكثرة التحديات التي خاضها أن شيئا في الدنيا لا يستطيع أن يستفزه ، ومع ذلك فيمكن لخطأ يبدو في عيون البعض هامشيا وصغيرا أن ينال من هدوئه .. ! هذا الهدوء الذي أثار إعجاب العالم إبان التداول في قضية حوار في محكمة العدل الدولية .. إذ برز محمد بن مبارك آنذاك معيدا إلى الأذهان بواكير انطلاقته الدبلوماسية عندما عرفه العالم من خلال ملف الخلاف البحريني الإيراني ..

هناك نوعان من الدبلوماسية كما يقول إيدموند بيورك : النوع الأساسي الذي يرسي الأصول ويفتح الآفاق ويصنع الثوابت ، والنوع الذي ينتهج ما أرساه النوع الأول .. والشيخ محمد بن مبارك من أبرز وجوه النوع الأول. سألت عنه دبلوماسيا ووزيرا خليجيا مرموقا وشاعرا وأديبا فقال باختصار: هذا أبانا الذي في الدبلوماسية.. ! ويقول عنه أحد الذين شهدوا بواكير انطلاقته في العمل العام : لقد تمتع بقدرة كبيرة على استشراف الحلم وقدرة اكبر على تحقيقه ، ليس لشخصه فقط ، بل لوطنه . امتاز بطموحات هائلة ولكنها مع ذلك هادئة إلى الدرجة التي تخفى عن الآخرين . انه رجل جوهري وشخصية قدرية، وله دروس ينبغي الإفصاح عنها.. لا سيما من حيث أمد بقائه على رأس مختبر صناعة الدبلوماسية البحرينية والخليجية، واحتفاظه رغم طول الأمد في العمل الدبلوماسي والوزاري بسجل لامع بامتياز ونظيف بلا منازع . يقول هنري كيسنجر في هامش مذكراته : " إن بقاء الدبلوماسي أو السياسي حتى أمد طويل في منصبه يعتبر بحد ذاته انجازا كبيرا "، ولكن البقاء طويلا على مقعد ربان سفينة الخارجية البحرينية لم يكن وحده النقطة البارزة في سجل الشيخ محمد بن مبارك ، فقد امتاز كنائب لرئيس الوزراء بكونه : حامل الملفات المتعددة ، وصاحب المهمات الإستراتيجية ؛ إذ يمسك بمصفوفة واسعة من المهام التكليفية واللجان النوعية . فهو رئيس اللجنة العليا للإشراف على إصلاح التعليم ، وهو قائد فريق العمل المكلف تطوير التعليم والتدريب ، وهو رئيس اللجنة العليا لتقنية المعلومات والاتصالات .. إلى غير ذلك من المهمات.

بنى الشيخ محمد بن مبارك آل خليفة سيرته انطلاقا من مرحلة سياسية هي الأكثر حساسية وخطورة في التاريخ البحريني الحديث ، ولكنها المرحلة الأكثر تأثيرا في تشكيل هوية الدولة وبلورة ثوابتها القومية والوطنية فاكتسب خاصية الشريك في ذلك العمل التأسيسي الذي تصدى له صاحب السمو الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة ومعه ثلة محدودة من رجالات الرعيل الأول. في تلك الأيام الحرجة من تاريخ المنطقة اعتمد الشيخ محمد بن مبارك على فطرته الخاصة في التأسيس لماكينة دبلوماسية بحرينية تدعم وتحمل الثوابت البحرينية حيال مسألة تقرير المصير .. ولا شك انه اختبر القلق والفشل والنجاح والتراجع وواجه الكثير من التحديات والمنعطفات الحرجة وحقق الكثير من الانتصارات الدبلوماسية والسياسية ، ولكنه حافظ دائما على قدر كبير من الجلال والرفعة لدوره القدري في تاريخ الدبلوماسية البحرينية والخليجية بشكل عام ، كما حافظ على مكانته المرموقة دوليا .

إن جوهرية وتاريخية التجربة التي اختبرها الشيخ محمد بن مبارك ، جعلت منه الرجل الذي يعرف أكثر من غيره عن تفاصيل وأسرار هذا التاريخ الذي تعامل معه وشارك في صناعته بشغف كبير ؛ بل وحلول شخصي في هذا التاريخ ، تماما كما يذهب العشق الصوفي بأصحابه إلي معراج الحلول .. إن التاريخ ـ كما يقول ماركس ـ لا يفعل شيئا، إنه لا يملك الثورة الهائلة ولا يخوض المعارك وليس له ملكات إبداعية.. الإنسان هو الذي يفعل ، ولكن انجازه يصبح تاريخيا حين يتمكن من الحلول في التاريخ .. وهذا تحديدا ما ظل يفعله الشيخ محمد بن مبارك آل خليفة على مدى ثلاثة عقود ونيف من الزمن وما يزال..

ليست هناك تعليقات: